الجمعة، 23 ديسمبر 2016

بارك الله فيكم ، لم يعُد بالأندلس أشاعرة ، ولم يعُد فيها ابن رشد


كان المعتزلة سادة المنهج العقلى ، وللمنهج العقلى فتنة لا تقل عن فتنة العلم التجريبى فى زمننا هذا ، والمقصود بالمنهج العقلى هنا ليس مجرد الإعتماد على العقل فى مسائل العلوم الدنيوية والمصالح الحياتية ، فهذا لا يختلف عليه أحد ممن يعتد بخلافه ولكن المقصود به وضع العقائد الدينية تحت سلطة العقل البشرى ، بحيث يقبل منها ما يتفق مع تصور المفكر العقلى ، ويرفض ما يراه مخالفاً للمعقول البشرى ، وبهذا المعنى أصبح المعتزلة سادة المنهج العقلى
، أى المنهج العقلى الذى يُخضع الدين لتصوراته ، وكانت مدرسة أهل الأثر من المحدثين والحنابلة وكثير من الفقهاء قد أبدت المعارضة الشديدة للإتجاه الكلامى كله ، وكانت المدرسة الحنبلية وما شابهها قد حملت النصوص التى تذم علم الكلام المبتدع على كل علم الكلام مبتدعاً كان أو غير مبتدع ، وكان الأقرب للسلامة فى نظرها هو الإقتصار على حفظ الآثار وتلقينه للشبيبة المتعلمه ، وجاء أبو الحسن الأشعرى (260-324 ) وكان ميلاد تصور جديد ، بحيث لم يعُد المعتزلة هم سادة هذا المجال ، كانت مهمة الأشعرى هى الدفاع عن العقائد الثابتة عند أهل السنة بالإسلوب الكلامى ، أى إثبات معقولية هذه العقائد ، وإثبات تناقض وتهافت معقول أصحاب المعقول ، كانت هذه الخطوة كبيرة جداً ، بحيث نقلت الهجوم المعتزلى المباشر على رواة الآحاديث ، إلى محاولة دفاع عن " المعقول " المعتزلى ، وللقصة تكملة ليس هذا موضعها ، ثم جاء الإمام الباقلانى ( ت 403) وتقدم خطوة أخرى فانتزع القيادة الفكرية للأمة من أيدى المعتزلة فى مواجهة عقلانية ومزاحمة علمية دون اللجوء إلى البكاء على أطلال سلمى أوسُعْــــدَى ، ولنترك الحديث الإمام الحافظ محدث الشام أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي (499هـ - 571 هـ) ليحكى لنا قصة الإمام الباقلانى ، يقول " وَكَانَت شَوْكَة الْمُعْتَزلَة بالعراق شَدِيدَة إِلَى أَن كَانَ زمن الْملك فنَاخسره وَكَانَ ملكا يحب الْعلم وَالْعُلَمَاء وَكَانَت لَهُ مجَالِس يقْعد فِيهَا للْعُلَمَاء ومنَاظرتهم وَكَانَ قَاضِي الْقُضَاة فِي وقته معتزليًّا فَقَالَ لَهُ فنَاخسره يَوْمًا هَذَا الْمجْلس عَامر من الْعلمَاء إِلَّا أَنِّي لَا أرى أحدا من أهل السّنة وَالْإِثْبَات ينصر مذْهبه فَقَالَ لَهُ إِن هَؤُلَاءِ الْقَوْم عَامَّة رعاع أَصْحَاب تَقْلِيد وأخبار وَرِوَايَات يروون الْخَبَر وضده ويعتقدونهما وَأَحَدهمَا نَاسخ للثَّانِي أَو متأول وَلَا أعرف مِنْهُم أحدا يقوم بِهَذَا الْأَمر وَهَذَا الْفَاسِق إِنَّمَا أَرَادَ إطفاء نور الْحق ويأبي اللَّه إِلَّا أَن يتم نوره ثمَّ أقبل يمدح الْمُعْتَزلَة ويثني عَلَيْهِم بِمَا اسْتَطَاعَ فَقَالَ الْملك محَال أَن يَخْلُو مَذْهَب طبق الأَرْض من نَاصر ينصره فانظروا أَي مَوضِع يكون منَاظر ليكتب فِيهِ ويحضر مجلسنَا فَلَمَّا عزم فِي ذَلِك وَكَانَ ذَلِك الْعَزْم أمرا من اللَّه أَرَادَ بِهِ نصْرَة الْحق فَقَالَ لَهُ أصلح اللَّه الْملك أخبروني أَن بِالْبَصْرَةِ رجلَيْنِ شَيخا وشابًّا أَحدهمَا يعرف بِأبي الْحسن الْبَاهِلِيّ والشاب يعرف بابْن الباقلاني وَكَانَت حَضْرَة الْملك يَوْمئِذٍ بشيراز فَكتب الْملك إِلَى الْعَامِل ليبعثهما إِلَيْهِ وَأطلق مَالا لنفقتهما من طيب المَال
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بكر بن الباقلاني فَلَمَّا وصل الْكتاب إلينَا قَالَ الشَّيْخ وَبَعض أصحابنَا هَؤُلَاءِ الْقَوْم فسقة لَا يحل لنَا أَن نَطَأ بساطهم وَلَيْسَ غَرَض الْملك من هَذَا إِلَّا أَن يُقَال إِن مَجْلِسه مُشْتَمل على أَصْحَاب المحابر كلهم وَلَو كَانَ ذَلِك لله عزوجل خَالِصا لنهضت فَأَنا لَا أحضر عِنْد قوم هَذِهِ صفتهمْ
فَقَالَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَذَا قَالَ ابْن كلاب والمحاسبي وَمن كَانَ فِي عصرهما من الْمُتَكَلِّمين إِن الْمَأْمُون لَا نحضر مَجْلِسه حَتَّى سَاق أَحْمد إِلَى طرسوس ثمَّ مَاتَ الْمَأْمُون وردوه إِلَى المعتصم فامتحنه وضربه وَهَؤُلَاء أسلموه وَلَو مروا إِلَيْهِ ونَاظروه لكفوه عَن هَذَا الْأَمر فَإِنَّهُ كَانَ يزْعم أَن الْقَوْم لَيست لَهُم حجَّة على دعاويهم فَلَو مروا إِلَيْهِ وبينوا للمعتصم لارتدع المعتصم وَلَكِن أسلموه فَجرى على أَحْمد بن حَنْبَل رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا جرى وَأَنت أَيهَا الشَّيْخ تسلك سبيلهم حَتَّى يجْرِي على الْفُقَهَاء مَا جرى على أَحْمد وَيَقُولُونَ بِخلق الْقُرْآن وَنفى رُؤْيَة اللَّه تَعَالَى وَهَا أنَا خَارج إِن لم تخرج قَالَ فَخرجت مَعَ الرَّسُول نَحْو شيراز فِي الْبَحْر حَتَّى وصلت إِلَيْهَا ثمَّ ذكر من دُخُوله على الْملك ومنَاظرته مَعَ الْمُعْتَزلَة وقطعه إيَّاهُم مَا ذكر قَالَ ثمَّ دفع إِلَيْهِ الْملك ابْنه يُعلمهُ مَذْهَب أهل السّنة وَألف لَهُ كتاب التَّمْهِيد فَتعلق أهل السّنة بِهِ تعلقًا شَدِيدا وَكَانَ الْقَاضِي أَبُو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَارس هَذَا الْعلم مُبَارَكًا على هَذِهِ الْأمة كَانَ يلقب شيخ السّنة ولسان الْأمة وَكَانَ مالكيًّا فَاضلا متورعًا مِمَّن لم يحفظ عَلَيْهِ زلَّة قطّ وَلَا انتسبت إِلَيْهِ نقيصة " (تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشعري ص: 118)
والعبرة الماثلة للعيان هى ضرورة الدفاع عن الحق بوسائل العقل والعلم دون قطيعة عن المجالات المختلفة بحجة أنه لم يسلكها الأقدمون ، ودون التعويل على سلطة ما غير سلطة الدليل والبرهان والإقناع ، إن البناء الإلحادى والعلمانى هش للغاية حينما نضعه تحت مجهر العقل ونتائج العلم والعلوم الإنسانية ، والإمام الحقيقى هو الذى يقود المواجهة الفكرية ليكون " بركة على الأمة " وأى بركة أعظم من حفظ أيمان الناس وإنسانيتهم وهويتهم ونفوسهم وبعد ذلك حريتهم ، ونحن مضطرون للإيمان بالثقافة الواسعة والولوج إلى عالم الغيب العلمى ، إن إنتزاع القيادة الفكرية للأمة من أدعياء العلم والمدنية والإنسانية ضرورة تنبع من داخل ثقافتنا ، ومعركة يفرضها الإيمان {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} [المائدة: 23] .. ومن ناحية أخرى ، نستطيع أن نتبين من كلام الباقلانى تلك الرابطة القوية التى كانت تجمع بين أهل الحديث وأوئل الأشاعرة ، وكيف فكّر الباقلانى فى دفع الأذى عن جميع الأمة من يرى مثل رؤيته فى إستخدام العقل ومن يخالفه وينهى عن الإشتغال بالكلام ، ومن العجب أن بعض من ينتمى للسلفية اليوم لا يكف عن إفتعال المعارك الوهمية مع الأشاعرة بل مع أنفسهم كأنه فى القرن السادس الهجرى ، كأنى بهم مازالوا يكتبون الرسائل لأهل الأندلس للتحذير من الأشاعرة والتنفير من فلسفة ابن رشد ، .. بارك الله فيكم ، لم يعُد بالأندلس أشاعرة ، ولم يعُد فيها ابن رشد


أنور علوانى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق